فصل: إعذارٌ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إعذارٌ

التعريف

1 - من معاني الإعذار لغةً‏:‏ المبالغة، يقال‏:‏ أعذر في الأمر، إذا بالغ فيه، وفي المثل‏:‏ أعذر من أنذر، يقال ذلك لمن يحذر أمراً يخاف، سواءٌ حذّر أم لم يحذّر، وأعذر أيضاً‏:‏ صار ذا عذرٍ، قيل‏:‏ ومنه قولهم‏:‏ أعذر من أنذر‏.‏ وعذرت الغلام والجارية عذراً‏:‏ ختنته فهو معذورٌ، وأعذرته لغةً فيه، والإعذار أيضاً‏:‏ طعامٌ يتّخذ لسرورٍ حادثٍ، ويقال‏:‏ هو طعام الختان خاصّةً، وهو مصدرٌ مسمًّى به، يقال‏:‏ أعذر إعذاراً‏:‏ إذا صنع ذلك الطّعام‏.‏ ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن المعاني السّابقة‏.‏ قال ابن سهلٍ‏:‏ والإعذار‏:‏ المبالغة في العذر، ومنه أعذر من أنذر، أي قد بالغ في الإعذار من تقدّم إليك فأنذرك، ومنه إعذار القاضي إلى من ثبت عليه حقٌّ يؤخذ منه، فيعذر إليه فيمن شهد عليه بذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإنذار ‏:‏

2 - الإنذار‏:‏ الإبلاغ، وأكثر ما يستعمل في التّخويف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنذرهم يوم الآزفة‏}‏ أي خوّفهم عذاب هذا اليوم‏.‏ فيجتمع مع الإعذار في أنّ كلاًّ منهما إبلاغٌ مع تخويفٍ إلاّ أنّ في الإعذار المبالغة‏.‏

ب - الإعلام ‏:‏

3 - الإعلام‏:‏ مصدر أعلم‏.‏ يقال أعلمته الخبر‏:‏ أي عرّفته إيّاه، فهو يجتمع مع الإعذار في أنّ في كلٍّ منهما تعريفاً، إلاّ أنّ في الإعذار المبالغة‏.‏

ج - الإبلاغ ‏:‏

4 - الإبلاغ‏:‏ مصدر أبلغ، والاسم منه البلاغ، وهو بمعنى الإيصال‏.‏ يقال‏:‏ أبلغته السّلام‏:‏ أي أوصلته إيّاه‏.‏ فهو يجتمع مع الإعذار في أنّ في كلٍّ منهما إيصالاً لما يراد، لكنّ الإعذار ينفرد بالمبالغة‏.‏

د - التّحذير ‏:‏

5 - التّحذير‏:‏ التّخويف من فعل الشّيء‏.‏ يقال‏:‏ حذّرته الشّيء فحذره‏:‏ إذا خوّفته فخافه، فهو يجتمع مع الإعذار في التّخويف، وينفرد الإعذار بأنّه لقطع العذر‏.‏

هـ - الإمهال ‏:‏

6 -الإمهال لغةً‏:‏ مصدر أمهل، وهو التّأخير‏.‏ ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن ذلك‏.‏ والفرق بينه وبين الإعذار‏:‏ أنّ الإعذار قد يكون مع ضرب مدّةٍ وقد لا يكون‏.‏ والإمهال لا يكون إلاّ مع ضرب مدّةٍ‏.‏ كما أنّ الإمهال لا تلاحظ فيه المبالغة‏.‏

و- التّلوّم‏:‏

7 - التّلوّم لغةً‏:‏ الانتظار والتّمكّث، والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن ذلك، إذ يراد به عند الفقهاء عدم الفوريّة في الأمر، بل يطلق الانتظار في كلّ أمرٍ بما يناسبه‏.‏

والكلام في هذا البحث خاصٌّ بالإعذار بمعنى المبالغة في قطع العذر‏.‏ أمّا بمعنى الختان أو الطّعام المصنوع لسرورٍ حادثٍ فينظر الكلام فيهما تحت عنواني‏:‏ ‏(‏ختانٌ، ووليمةٌ‏)‏‏.‏

حكمه التّكليفيّ

8 - مواطن الإعذار متعدّدةٌ، وليس لها حكمٌ واحدٌ يجمعها، لكنّه في الجملة مطلوبٌ، ويختلف حكمه بحسب ما يتعلّق به، فمن الفقهاء من يراه واجباً في بعض المواطن، ومنهم من يراه مستحبّاً، ومنهم من منعه على نحو ما يأتي‏.‏

دليل المشروعيّة

9 - الأصل في مشروعيّة الإعذار قوله تعالى في سورة الإسراء‏:‏ ‏{‏وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً‏}‏ وقوله تعالى في سورة النّمل في قصّة الهدهد‏:‏ ‏{‏لأعذّبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتينّي بسلطانٍ مبينٍ‏}‏ وجه الاستدلال بالأولى‏:‏ أنّ اللّه لا يهلك أمّةً بعذابٍ إلاّ بعد الرّسالة إليهم والإنذار، ومن لم تبلغه الدّعوة فهو غير مستحقٍّ للعذاب‏.‏

ووجه الاستدلال بالثّانية‏:‏ أنّ فيها دليلاً على أنّ الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيّته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم، لأنّ سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه‏.‏

الإعذار في الرّدّة ‏(‏الاستتابة‏)‏

10 - الرّدّة ‏:‏ الرّجوع عن الإسلام قولاً أو فعلاً على خلافٍ وتفصيلٍ فيما يكون ردّةً أو لا يكون، ينظر تحت عنواني‏:‏ ‏(‏إسلامٌ، ردّةٌ‏)‏‏.‏

حكم الإعذار إلى المرتدّ

11 - مذهب الحنفيّة، وقولٌ للشّافعيّة، وروايةٌ عن الإمام أحمد أنّ استتابة المرتدّ مستحبّةٌ وليست واجبةً، فقد قال الحنفيّة‏:‏ من ارتدّ عرض عليه الإسلام استحباباً على المذهب، وتكشف شبهته ويحبس وجوباً، وقيل‏:‏ ندباً ثلاثة أيّامٍ يعرض عليه الإسلام في كلّ يومٍ منها إن طلب المهلة ليتفكّر، فإن لم يطلب مهلةً بعد عرض الإسلام عليه وكشف شبهته قتل من ساعته، إلاّ إذا رجي إسلامه فإنّه يمهل، قيل‏:‏ وجوباً، وقيل‏:‏ استحباباً، وهو الظّاهر‏.‏ وإذا ارتدّ ثانياً ثمّ تاب ضربه الإمام وخلّى سبيله، وإن ارتدّ ثالثاً ضربه الإمام ضرباً وجيعاً وحبسه حتّى تظهر عليه آثار التّوبة، ويرى أنّه مخلصٌ ثمّ يخلّي سبيله، فإن عاد فعل به هكذا‏.‏ لكن نقل ابن عابدين عن آخر حدود الخانيّة معزيّاً للبلخيّ ما يفيد قتله بلا استتابةٍ، لحديث‏:‏ «من بدّل دينه فاقتلوه»، وكره تنزيهاً قتله قبل العرض عليه، فإن قتله قبل العرض فلا ضمان، لأنّ الكفر مبيحٌ للدّم‏.‏

واستدلّ القائلون بعدم وجوب الاستتابة بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من بدّل دينه فاقتلوه» ولم يذكر استتابته‏.‏

ومذهب المالكيّة، والمعتمد عند الشّافعيّة، والمذهب عند الحنابلة‏.‏ أنّ المرتدّ لا يقتل حتّى يستتاب وجوباً، ومدّة الاستتابة عند المالكيّة والحنابلة، وفي قولٍ للشّافعيّة ثلاثة أيّامٍ بلياليها، وفي قول ابن القاسم من المالكيّة، أنّه يستتاب ثلاث مرّاتٍ في يومٍ واحدٍ، قال المالكيّة‏:‏ والأيّام الثّلاثة، هي من يوم الثّبوت لا من يوم الكفر، ولا يحسب يوم الرّفع إلى الحاكم، ولا يوم الثّبوت إن كان الثّبوت بعد طلوع الفجر، ولا يعاقب بجوعٍ ولا عطشٍ ولا بأيّ نوعٍ من أنواع العقاب، وإن لم يعد بالتّوبة فإن تاب ترك، وإن لم يتب قتل، وفي قول عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ المرتدّ يقتل في الحال بلا استتابةٍ‏.‏

دليل القائلين بالوجوب

12 - احتجّ القائلون بوجوب الاستتابة«بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أن يستتاب المرتدّ»، وبما روى الإمام مالكٌ في الموطّأ عن عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد اللّه بن عبد القاريّ عن أبيه أنّه قدم على عمر رجلٌ من قبل أبي موسى فقال له عمر‏:‏ هل من مغربة خبرٍ ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ رجلٌ كفر بعد إسلامه، فقال‏:‏ ما فعلتم به ‏؟‏ قال‏:‏ قرّبناه فضربنا عنقه‏.‏ فقال عمر‏:‏ فهلاّ حبستموه ثلاثاً، فأطعمتموه رغيفاً كلّ يومٍ واستتبتموه لعلّه يتوب أو يراجع أمر اللّه، اللّهمّ إنّي لم أحضر، ولم أرض إذ بلغني‏.‏

ولو لم تجب استتابته لما برئ من فعلهم، ولأنّه أمكن استصلاحه فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه كالثّوب النّجس، وأمّا الأمر بقتله في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من بدّل دينه فاقتلوه»‏.‏ فالمراد به قتله بعد الاستتابة‏.‏

الإعذار إلى المرتدّة

13 - مذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا فرق بين الرّجال والنّساء في وجوب قتل المرتدّ أو المرتدّة بعد الاستتابة إن لم يرجعوا إلى الإسلام على التّفصيل السّابق في وجوب الإعذار أو استحبابه‏.‏ روي ذلك عن أبي بكرٍ وعليٍّ رضي الله عنهما، وبه قال الحسن والزّهريّ والنّخعيّ ومكحولٌ وحمّادٌ واللّيث والأوزاعيّ مستدلّين بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من بدّل دينه فاقتلوه»، وروي عن عليٍّ والحسن وقتادة أنّها تسترقّ ولا تقتل، لأنّ أبا بكرٍ استرقّ نساء بني حنيفة‏.‏

ومذهب الحنفيّة‏:‏ أنّها تجبر على الإسلام بالحبس والضّرب ولا تقتل، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تقتلوا امرأةً»، ولأنّها لا تقتل بالكفر الأصليّ فلا تقتل بالطّارئ‏.‏ وللمالكيّة تفصيلٌ إذ قالوا‏:‏ إنّها تقتل إن لم ترجع إلى الإسلام، لكن تستبرأ قبل القتل بحيضةٍ، خشية أن تكون حاملاً، فإن حاضت أيّام الاستتابة انتظر تمامها فينتظر أقصر الأجلين، فإن ظهر بها حملٌ أخّرت حتّى تضع‏.‏

ومقتضى ما ذكر أنّ المرتدّة تستتاب عند الأئمّة الثّلاثة، فإن رجعت إلى الإسلام وإلاّ قتلت، وأنّ مذهب الحنفيّة جبرها على العودة إلى الإسلام بالحبس والضّرب‏.‏

الإعذار في الجهاد

14 - الحربيّون هم الكفّار الّذين يقيمون ببلاد الكفر، ولا صلح لهم مع المسلمين‏.‏ فهؤلاء هم الّذين يحاربون باتّفاق الفقهاء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدّين كلّه للّه‏}‏‏.‏ وشرط محاربتهم بلوغ الدّعوة إليهم فلا تجوز محاربتهم قبل ذلك، وهو أمرٌ أجمع عليه المسلمون، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنّا معذّبين حتّى نبعث رسولاً‏}‏ ولكن هل يجب تكرار دعوتهم إذا تكرّرت محاربتهم ‏؟‏ فالجمهور على أنّه لا يجب تكرار دعوتهم، بل يستحبّ‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ وأمّا بيان ما يجب على الغزاة الافتتاح به حالة الوقعة ولقاء العدوّ، فإنّ الأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين‏:‏ إمّا أن تكون الدّعوة قد بلغتهم، وإمّا أن تكون لم تبلغهم، فإن كانت الدّعوة لم تبلغهم فعليهم الافتتاح بالدّعوة إلى الإسلام باللّسان، لقول اللّه تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن‏}‏ ولا يجوز لهم القتال قبل الدّعوة، لأنّ الإيمان وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدّعوة بمجرّد العقل، فاستحقّوا القتل بالامتناع، لكنّ اللّه تبارك وتعالى حرّم قتالهم قبل بعث الرّسول عليه الصلاة والسلام، وبلوغ الدّعوة إيّاهم فضلاً منه ومنّةً، قطعاً لمعذرتهم بالكلّيّة، وإن كان لا عذر لهم في الحقيقة، لمّا أقام سبحانه وتعالى من الدّلائل العقليّة الّتي لو تأمّلوها حقّ التّأمّل ونظروا فيها لعرفوا حقّ اللّه تبارك وتعالى عليهم، لكن تفضّل عليهم بإرسال الرّسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لئلاّ يبقى لهم شبهة عذرٍ فيقولون‏:‏ ‏{‏ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك‏}‏ وإن لم يكن لهم أن يقولوا ذلك في الحقيقة لما بيّنّا، ولأنّ القتال ما فرض لعينه، بل للدّعوة إلى الإسلام‏.‏

والدّعوة دعوتان‏:‏ دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهي اللّسان، وذلك بالتّبليغ، والثّانية أهون من الأولى، لأنّ في القتال مخاطرة الرّوح والنّفس والمال، وليس في دعوة التّبليغ شيءٌ من ذلك، فإذا احتمل حصول المقصود بأهون الدّعوتين لزم الافتتاح بها، هذا إذا كانت الدّعوة لم تبلغهم‏.‏ فإن كانت قد بلغتهم جاز لهم أن يفتتحوا القتال من غير تجديد الدّعوة، لما بيّنّا أنّ الحجّة لازمةٌ، والعذر في الحقيقة منقطعٌ، وشبهة العذر انقطعت بالتّبليغ مرّةً، لكن مع هذا الأفضل ألاّ يفتتحوا القتال إلاّ بعد تجديد الدّعوة لرجاء الإجابة في الجملة، وقد روي «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل الكفرة حتّى يدعوهم إلى الإسلام»‏.‏ فيما كان دعاهم غير مرّةٍ‏.‏ دلّ أنّ الافتتاح بتجديد الدّعوة أفضل، ثمّ إذا دعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا كفّوا عنهم القتال، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها» وقوله عليه الصلاة والسلام «من قال‏:‏ لا إله إلاّ اللّه فقد عصم منّي دمه وماله» فإن أبوا الإجابة إلى الإسلام دعوهم إلى الذّمّة إلاّ مشركي العرب والمرتدّين ‏(‏لأنّه لا يقبل منهم إلاّ الإسلام‏)‏ فإن أجابوا كفّوا عنهم، وإن أبوا استعانوا باللّه سبحانه وتعالى على قتالهم‏.‏ وذهب المالكيّة في المشهور إلى أنّهم يدعون وجوباً سواءٌ بلغتهم الدّعوة أم لا، ما لم يعاجلونا بالقتال أو يكون الجيش قليلاً، قالوا‏:‏ ومن هذا القبيل كانت إغارة سراياه عليه الصلاة والسلام‏.‏ وللحنابلة تفصيلٌ بيّنه ابن قدامة بقوله‏:‏ أهل الكتاب والمجوس لا يدعون قبل القتال، لأنّ الدّعوة قد انتشرت وعمّت، فلم يبق منهم من لم تبلغه الدّعوة إلاّ نادراً بعيداً‏.‏ وأمّا عبدة الأوثان فإنّ من بلغته الدّعوة منهم لا يدعون، وإن وجد منهم من لم تبلغه الدّعوة دعي قبل القتال، قال أحمد‏:‏«كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب حتّى أظهر اللّه الدّين وعلا الإسلام»، ولا أعرف اليوم أحداً يدعى، قد بلغت الدّعوة كلّ أحدٍ، فالرّوم قد بلغتهم الدّعوة وعلموا ما يراد منهم، وإنّما كانت الدّعوة في أوّل الإسلام، وإن دعا فلا بأس‏.‏

الإعذار إلى البغاة

15 - البغاة‏:‏ هم الخارجون على الإمام الحقّ بتأويلٍ، ولهم منعةٌ‏.‏ وقد اتّفق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا يجوز قتالهم حتّى يبعث إليهم الإمام أميناً فطناً ناصحاً يسألهم ما ينقمون، فإن ذكروا مظلمةً أو شبهةً أزالها، فإن أصرّوا بعد الإعذار نصحهم، بأن يعظهم ويأمرهم بالعودة إلى طاعته، فإن استمهلوه اجتهد في الإمهال، وفعل ما رآه صواباً‏.‏ وهذا كلّه ما لم يعاجلوا بالقتال، فإن عاجلوا قوتلوا‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّ دعوتهم إلى طاعة الإمام وكشف شبهتهم أمرٌ مستحبٌّ وليس واجباً، ولو قاتلهم بلا دعوةٍ جاز‏.‏

الإعذار في الدّعوى

16 - المدّعى عليه هو كلّ من توجّه عليه حقٌّ، إمّا بإقرارٍ، إن كان ممّن يصحّ إمراره، وإمّا بالشّهادة عليه بعد عجزه عن دفع الدّعوى وبعد الإعذار إليه قبل الحكم، وإمّا بالشّهادة عليه مع يمين الاستبراء، إن كان الحقّ على ميّتٍ أو على غائبٍ، وإمّا بلدده وتغيّبه عن حضور مجلس الحكم وقيام البيّنة عليه، وإمّا بالشّهادة عليه ولدده عن الجواب عن الدّعوى‏.‏ والمقضىّ عليهم أنواعٌ‏:‏ منهم الحاضر المالك أمره، ومنهم الغائب الصّغير المحجور عليه، ومنهم السّفيه المولّى عليه، ومنهم الورثة المدّعى عليهم في مال الميّت وفيهم الصّغير والكبير‏.‏ فإذا كان المدّعى عليه حاضراً بمجلس القضاء، وادّعيت الدّعوى وكانت مستوفية الشّروط، طلب القاضي من المدّعى عليه الجواب عنها، وسار القاضي فيها حسبما هو مدوّنٌ في كتب الفقهاء‏.‏ فإن أقرّ المدّعى عليه بالحقّ المدّعى، فهل يحكم القاضي بمقتضى الإقرار حالاً، أو أنّه يجوز له أن يتّخذ إجراءً آخر جائزاً أو واجباً ‏؟‏

قال الجمهور، وهو المنصوص عن أحمد‏:‏ يقضى على المدّعى عليه بإقراره من غير أمرٍ آخر كالإعذار ونحوه‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى من الحنابلة‏:‏ لا بدّ للحكم بمقتضى الإقرار أن يشهد على الإقرار شاهدان‏.‏ وفي المذاهب تفصيلاتٌ في الإعذار إلى الغائب عن مجلس القضاء، في حكم الإعذار وفي وقته، وفي المسافة الّتي يعذر إليه فيها، وفي المدّعى عليه الّذي يمتنع الإعذار إليه‏.‏ وفقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه لا يقضى على الغائب عن مجلس القضاء إلاّ بعد الإعذار‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يقضى عليه‏.‏ وتختلف المذاهب في زمن الإعذار وكيفيّته‏.‏

ما يسقط به الإعذار

17 - قال المالكيّة‏:‏ كلّ من قامت عليه بيّنةٌ بحقٍّ من معاملةٍ أو نحوها، أو دعوى بفسادٍ أو تعدٍّ أو غصبٍ، فلا بدّ من الإعذار إليه قبل الحكم، إلاّ أن يكون من أهل الفساد الظّاهر، أو من الزّنادقة المشهورين بما ينسب إليهم، فلا يعذر إليهم فيما شهد به عليهم‏.‏ كما حدث بالنّسبة لأبي الخير الزّنديق، لمّا شهد عليه ثمانية عشر شاهداً أمام قاضي الجماعة منذر بن سعيدٍ بأنّه يصرّح بالكفر والانسلاخ من الإيمان، فأشار بعض العلماء بأن يعذر إليه فيما شهد به عليه، وأشار قاضي الجماعة وبعضٌ آخر من العلماء بأنّه يقتل بغير إعذارٍ، لأنّه ملحدٌ كافرٌ، وقد وجب قتله بدون ما ثبت عليه فقتل بغير إعذارٍ، فقيل لأحدهم أن يذكر لهم وجه الحكم، فذكر أنّ الّذي اعتمد عليه في الفتيا بالقتل بدون إعذارٍ أنّ مذهب مالكٍ قطع الإعذار عمّن استفاضت عليه الشّهادات في الظّلم، وعلى مذهبه في السّلاّبة والمغيّرين وأشباههم، إذا شهد عليهم المسلوبون والمنتهبون أن تقبل شهادتهم عليهم - إذا كانوا من أهل القبول - بدون إعذارٍ‏.‏ وكذلك لا يعذر في مثل رجلٍ يتعلّق برجلٍ، وجرحه يدمي، فيصدّق بقوله‏.‏ وفي الّتي تتعلّق بالرّجل في المكان الخالي وقد فضحت نفسها بإصابته لها، فتصدّق بفضيحة نفسها‏.‏ ومثل هذا كثيرٌ‏.‏ واستدلّوا على ذلك بأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّما أنا بشرٌ، وإنّكم تختصمون إليّ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعضٍ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه» وهذا الحديث هو الأصل في هذا الباب ولا إعذار فيه‏.‏ وكذلك كتاب عمر بن الخطّاب إلى أبي عبيدة بن الجرّاح، وإلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهم، وهما أيضاً ملاذ الحكّام في الأحكام، ولا إعذار منهما ولا إقالة من حجّةٍ ولا كلمةٍ، غير أنّ الإعذار فيما يتحاكم فيه النّاس من غير أسباب الدّيانات استحسانٌ من الأئمّة، فأمّا في إقامة الحدود في الإلحاد والزّندقة وتكذيب القرآن والرّسول عليه الصلاة والسلام فلم يرد فيه شيءٌ عندهم‏.‏ قالوا‏:‏ وما يمتنع فيه الإعذار كثيرٌ ولم يعثر على أقوالٍ في المذاهب الأخرى في مثل هذا‏.‏

التّأجيل في الإعذار

18 - الإعذار يكون إلى المدّعي، فيقول له القاضي‏:‏ أبقيت لك حجّةٌ ‏؟‏ وقد يكون إلى المدّعى عليه، فيسأله القاضي‏:‏ ألك دفعٌ فيما ادّعى به عليك ‏؟‏ فإذا أعذر القاضي إلى من توجّه الإعذار إليه، سواءٌ أكان مدّعياً أم مدّعًى عليه‏.‏ وقال‏:‏ نعم، وسأله التّأجيل، ضرب له أجلاً بحسب تلك الواقعة حسب اجتهاده في بلوغ من أجّل له الوصول إلى قصده بغير إضرارٍ بخصمه، فإن كان التّأجيل للمدّعى عليه، وأتى بدفعٍ فيما شهد به عليه، وسأل المدّعي التّأجيل أيضاً، وزعم أنّ له دفعاً فيما جاء به المدّعى عليه، ضرب له أجلاً أيضاً، وتلوّم عليه ‏(‏انتظر‏)‏ حتّى يتبيّن الحقّ، ويظهر عجز أحدهما، فيقضى على نحو ما ثبت‏.‏ والحكم كذلك في جميع المذاهب‏.‏

آجالٌ مقدّرةٌ من الشّارع

19 - هناك آجالٌ لا يدخلها اجتهاد الحاكم، بل هي مقدّرةٌ بالشّرع لأجل الإعذار، منها‏:‏ تأجيل العنّين، وسبق تفصيله في ‏(‏أجلٌ‏)‏ ويأتي في ‏(‏عنّةٌ‏)‏‏.‏

إعذار المولي

20 - فقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، عرّفوا الإيلاء بأنّه‏:‏ الحلف على ترك الزّوج وطء زوجته أكثر من أربعة أشهرٍ‏.‏

وعرّفه الحنفيّة بأنّه‏:‏ الحلف على ترك وطء الزّوجة أربعة أشهرٍ فأكثر، فالخلاف بينهم وبين غيرهم في أقلّ المدّة الّتي يحلف على التّرك فيها، فعند الجمهور أكثر من أربعة أشهرٍ، وعند الحنفيّة أربعة أشهرٍ، والإعذار عند الجمهور أنّ المولي يقفه ‏(‏يحضره‏)‏ القاضي بعد تمام الأشهر الأربعة، إذا رافعته امرأته فيأمره بالفيئة، فإن أبى أمره بالطّلاق، ولا تطلق بمضيّ المدّة، وهذا هو رأي سعيد بن المسيّب وعروة ومجاهدٍ وإسحاق وأبي عبيدٍ وابن المنذر‏.‏ ومذهب الحنفيّة أنّه إذا مضت أربعة أشهرٍ ولم يقربها، فقد بانت منه بطلقةٍ واحدةٍ، ولا حاجة إلى إنشاء تطليقٍ، أو الحكم بالتّفريق‏.‏

والمراد بالأشهر الأشهر القمريّة، وتبدأ من تاريخ الحلف وهذا باتّفاق الجميع‏.‏ وينظر أيضاً مصطلح ‏(‏أجلٌ‏)‏ ومصطلح ‏(‏إيلاءٌ‏)‏‏.‏

إعذار الممتنع من وطء زوجته

21 - المنصوص عليه في مذهبي الحنفيّة والشّافعيّة، أنّ الزّوجة لا حقّ لها في الوطء إلاّ مرّةً واحدةً يستقرّ بها المهر وهذا في القضاء، وأمّا ديانةً فلها الحقّ في كلّ أربعة أشهرٍ مرّةً، لأنّ اللّه تعالى جعلها أجلاً لمن آلى من امرأته‏.‏

وقال المالكيّة والحنابلة‏:‏ إنّ الوطء واجبٌ على الزّوج إذا لم يكن له عذرٌ‏.‏ وقال القاضي أبو يعلى‏:‏ لا يجب إلاّ أن يترك للإضرار، وقد بيّن الموّاق أنّ من واصل العبادة وترك الوطء لم ينه عن تبتّله، وقيل له‏:‏ إمّا وطئت أو فارقت‏.‏ قال مالكٌ‏:‏ وأرى أن يقضى بذلك‏.‏ قال ابن حبيبٍ‏:‏ إن كان زاهداً قاضته امرأته، وقيل له‏:‏ تخلو معها في كلّ أربع ليالٍ ليلةً، وهو قسم المرأة مع ضرائرها، قال خليلٌ‏:‏ بلا أجلٍ على الأصحّ‏.‏ وظاهر المدوّنة أنّه يضرب له أجلٌ بمقدار أجل الإيلاء‏.‏ وروي أنّ عمر ‏(‏في حادثة غيبة أحد الغزاة غيبةً طويلةً عن زوجته‏)‏ سأل حفصة - زوج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - كم تصبر المرأة عن النّكاح ‏؟‏ فقالت‏:‏ أربعة أشهرٍ، وبعدها يفنى صبرها أو يقلّ، فنادى حينئذٍ ألاّ تزيد غزوةٌ عن أربعة أشهرٍ‏.‏ وفي حاشية سعدي جلبي‏:‏ والظّاهر أنّ لها حقّاً في الجماع في كلّ أربعة أشهرٍ مرّةً لا أقلّ، يؤيّده قصّة عمر رضي الله عنه حين سمع من تلك المرأة ما سمع‏.‏ واستدلّوا «بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن عمرو بن العاص‏:‏ يا عبد اللّه‏:‏ ألم أخبر أنّك تصوم النّهار وتقوم اللّيل ‏؟‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول اللّه‏.‏ قال‏:‏ فلا تفعل‏.‏ صم وأفطر، وقم ونم‏.‏ فإنّ لجسدك عليك حقّاً، وإنّ لعينك عليك حقّاً، وإنّ لزوجك عليك حقّاً» فأخبر أنّ للمرأة عليه حقّاً‏.‏ وقد اشتهرت قصّة كعب بن سورٍ، ولأنّ النّكاح شرع لمصلحة الزّوجين، ودفع الضّرر عنهما، وهو مفضٍ إلى دفع ضرر الشّهوة عن المرأة، كإفضائه إلى دفع ذلك عن الرّجل، فيجب تعليله بذلك، ويكون النّكاح حقّاً لهما جميعاً‏.‏ ولأنّه لو لم يكن لها فيه حقٌّ لما وجب استئذانها في العزل‏.‏

الإعذار إلى الممتنع من الإنفاق على زوجته

22 - الفقهاء متّفقون على أنّ على الزّوج الإنفاق على زوجته متى تحقّقت الشّروط الموجبة لذلك، فإذا امتنع من الإنفاق ففي كلّ مذهبٍ شروطٌ وتفصيلاتٌ‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ إذا طلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها النّفقة، ففرض وهو معسرٌ، فإنّ القاضي يأمرها بالاستدانة، ثمّ ترجع على الزّوج إذا أيسر، ولا يحبسه في النّفقة إذا علم أنّه معسرٌ، وإن لم يعلم القاضي أنّه معسرٌ، وسألت المرأة حبسه بالنّفقة، لا يحبسه القاضي في أوّل مرّةٍ، ولكن يأمره بالإنفاق ويعذر إليه، بأن يخبره أنّه يحبسه إن لم ينفق‏.‏ فإن عادت المرأة بعد ذلك مرّتين أو ثلاثاً حبسه القاضي، وكذا في دينٍ آخر غير النّفقة‏.‏ وإذا حبسه القاضي شهرين أو ثلاثةً أو أربعةً يسأل عنه‏.‏ والصّحيح أنّه ليس بمقدّرٍ، بل هو مفوّضٌ إلى رأي القاضي، إن كان في أكبر رأيه أنّه لو كان له مالٌ يضجر ويؤدّي الدّين يخلّى سبيله، ولا يمنع الطّالب عن ملازمته، ولا يمنعه عن التّصرّف‏.‏ وإن كان غنيّاً لا يخرجه حتّى يؤدّي الدّين والنّفقة إلاّ برضى الطّالب‏.‏ فإن كان له مالٌ حاضرٌ أخذ القاضي الدّراهم والدّنانير من ماله، ويؤدّي منها النّفقة والدّين، لأنّ صاحب الحقّ لو ظفر بجنس حقّه كان له أن يأخذه، وكذا إذا ظفر بطعامٍ في النّفقة‏.‏ والعجز عن الإنفاق لا يوجب حقّ الفراق‏.‏

ومذهب المالكيّة‏:‏ أنّ للزّوجة الفسخ بطلقةٍ رجعيّةٍ، إن عجز زوجها عن نفقةٍ حاضرةٍ، ولها أن تبقى معه، وإن علمت فقره عند العقد فليس لها ذلك‏.‏ وإذا أرادت الفسخ رفعت الأمر للحاكم فيأمره - إن لم يثبت عسره ببيّنةٍ، أو تصديقها بالنّفقة أو الكسوة إن شكت عدمها، أو الطّلاق - ويقول له‏:‏ إمّا أن تنفق عليها أو تطلّقها‏.‏ وإن أثبت عسره ابتداءً، أو بعد الأمر بالطّلاق، تصبر له بالاجتهاد بما يراه الحاكم من غير تحديدٍ بيومٍ أو أكثر، وزيد في مدّة التّلوّم إن مرض أو سجن بعد إثبات العسر، لا في زمن إثباته، فيزاد بقدر ما يرجى له شيءٌ، وهذا إذا رجي برؤه من المرض وخلاصه من السّجن عن قربٍ، وإلاّ طلّق عليه ويستوي في ذلك غياب الزّوج أو حضوره، والزّوج الغائب الّذي يتلوّم له هو الّذي لم يوجد عنده ما يقابل النّفقة، ولم يعلم موضعه، أو زادت غيبته على عشرة أيّامٍ‏.‏ وأمّا قريب الغيبة كثلاثة أيّامٍ، فإنّه يرسل إليه الحاكم، إمّا أن تنفق عليها أو يطلّق عليك‏.‏

ومذهب الشّافعيّة أنّ الممتنع من الإنفاق إمّا أن يكون موسراً أو معسراً‏.‏ فإن كان موسراً فعندهم قولان، أصحّهما‏:‏ أنّه لا يفسخ النّكاح حاضراً كان الزّوج أو غائباً، لانتفاء الإعسار الموجب للفسخ، وهي متمكّنةٌ من تحصيل حقّها بالرّفع إلى الحاكم‏.‏

والثّاني‏:‏ أنّ لها الفسخ لتضرّرها بالمنع‏.‏ وإن كان معسراً، فإن صبرت، وأنفقت من مالها أو القرض صارت ديناً عليه، وإلاّ فلها الفسخ في الأظهر، كما تفسخ بالجبّ والعنّة، بل هذا أولى، لأنّ الصّبر على عدم الاستمتاع أسهل من الصّبر على عدم النّفقة، والثّاني‏:‏ لا فسخ لها لأنّ المعسر منظرٌ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏ ولا فسخ حتّى يثبت عند قاضٍ إعساره بالإقرار أو البيّنة‏.‏

ثمّ في قولٍ ينجّز الفسخ للإعسار بالنّفقة وقت وجوب تسليمها وهو طلوع الفجر، ولا يلزم الإمهال، والأظهر إمهاله ثلاثة أيّامٍ ليتحقّق عجزه، وهي مدّةٌ قريبةٌ يتوقّع فيها القدرة بقرضٍ أو غيره، ولها الفسخ صبيحة الرّابع بنفقته إلاّ أن يسلّم نفقته‏.‏

ولو رضيت بإعساره العارض، أو نكحته عالمةً بإعساره فلها الفسخ بعده‏.‏ ومذهب الحنابلة كمذهب الشّافعيّة في أنّ زوجة المعسر مخيّرةٌ بين الصّبر عليه وبين فراقه‏.‏ روي نحو ذلك عن عمر وعليٍّ وأبي هريرة، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وعمر بن عبد العزيز وربيعة وحمّادٌ وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين‏.‏ ولم يعثر عند الحنابلة على نصٍّ في لزوم الإعذار للإعسار عن النّفقة، والظّاهر من كلامهم أنّه يطلّق على الفور‏.‏

وتفصيل هذه الأحكام في مصطلحي ‏(‏إعسارٌ، ونفقةٌ‏)‏‏.‏

الإعذار إلى المعسر بمعجّل المهر

23 - إذا ثبت إعسار الزّوج بمعجّل الصّداق وطالبته الزّوجة به فهل يطلّق عليه فور الثّبوت، أو يعذر إليه قبل الطّلاق، أو لا إعذار ولا تطليق ‏؟‏ اختلف الفقهاء في التّطليق عليه وفي الإعذار إليه، فقال المالكيّة‏:‏ إنّه يطلّق عليه لكن بعد الإعذار‏.‏ وللشّافعيّة والحنابلة أقوالٌ وتفصيلاتٌ في التّطليق عليه‏.‏ أمّا الحنفيّة فقالوا‏:‏ لا يطلّق عليه‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ الزّوجة إن طالبت الزّوج بالصّداق الواجب ولم يجده، فإن ادّعى العدم، ولم تصدّقه، ولا أقام بيّنةً على صدقه، ولا مال له ظاهرٌ، ولم يغلب على الظّنّ عسره أجّله الحاكم لإثبات عسره، إن أعطى حميلاً ‏"‏ كفيلاً ‏"‏ بالوجه، وإلاّ حبسه كسائر الدّيون‏.‏ ومدّة التّأجيل متروكةٌ للقاضي‏.‏ ثمّ إذا ثبت عسره بالبيّنة أو صدّقته تلوّم له ‏(‏تمكث‏)‏ بالنّظر، وإذا لم يثبت عسره في مدّة التّأجيل ولم تصدّقه، فقال الحطّاب‏:‏ الظّاهر أنّه يحبس إن جهل حاله ليستبين أمره، ولو غلب على الظّنّ عسره تلوّم له ابتداءً‏.‏

فأمّا ظاهر الملاءة ‏(‏الغنى‏)‏ فيحبس إلى أن يأتي ببيّنةٍ تشهد بعسره، إلاّ أن يحصل لها ضررٌ بطول المدّة فلها طلب التّطليق‏.‏ ومن ذهب إلى فسخ النّكاح بإعسار الزّوج بمعجّل المهر من الشّافعيّة والحنابلة قالوا‏:‏ يثبت لها الفسخ بالإعسار، ولم يذكروا إعذاراً، لكنّهم قالوا‏:‏ إنّ الفسخ لا يكون إلاّ من الحاكم‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ إنّه يترتّب على عدم قبض الزّوجة معجّل مهرها أنّها تملك أن تمتنع عن الدّخول في طاعته، ولا تكون بذلك ناشزةً، وليس له حبسها ومنعها من السّفر وغيره‏.‏ والمفهوم من كلامهم أنّه يستوي في ذلك أن يكون سبب عدم الإقباض العسر أو غيره، لأنّهم ذكروا أنّ لها المنع حتّى تستوفي المعجّل، فيفيد الإطلاق على هذا الوجه أنّ لها الامتناع مطلقاً في اليسار والإعسار‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏مهرٌ‏)‏‏.‏

إعذار المدين

24 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الموسر إذا امتنع من قضاء الدّين فإنّه يحبس حتّى يؤدّي الدّين مستدلّين بقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليّ الواجد ظلمٌ‏.‏ يحلّ عقوبته وعرضه» فعقوبته حبسه، وعرضه أي يحلّ القول بالإغلاظ له‏.‏

وثبوت اليسار يكون بإقرار المدين أو بالبيّنة، ومدّة الحبس محلّ خلافٍ كما سيأتي‏.‏

وإذا اختلف الدّائن والمدين في اليسار أو الإعسار، ففي كلّ مذهبٍ تفصيلاتٌ وأحكامٌ‏.‏

وإذا لم يثبت يساره ولا إعساره فإنّه يمهل للتّحقّق من أمره، فإن كان معسراً فنظرةٌ إلى ميسرةٍ، وإن كان موسراً عوقب بالحبس وتفصيله في ‏(‏دينٌ‏)‏‏.‏

الإعذار عند الأخذ للاضطرار

25 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ الأكل للغذاء والشّرب للعطش - ولو من حرامٍ، أو ميتةٍ أو من مال غيره - فرضٌ يثاب عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه ليؤجر في كلّ شيءٍ، حتّى اللّقمة يرفعها العبد إلى فيه» فإن ترك الأكل والشّرب حتّى هلك فقد عصى، لأنّ فيه إلقاء النّفس إلى التّهلكة، وهو منهيٌّ عنه في محكم التّنزيل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة‏}‏ والقدر الواجب هو ما يدفع به الإنسان الهلاك عن نفسه، والمباح إلى الشّبع، وما فوق ذلك فحرامٌ‏.‏

وأجمع الفقهاء على أنّ من خاف الموت جوعاً، ومع غيره طعامٌ زائدٌ عن حاجته، أخذ منه قدر ما يسدّ جوعته، وكذا يأخذ منه قدر ما يدفع العطش، فإن منعه أخذه رغماً عنه، فإن قاتله صاحب الطّعام فله مقاتلته‏.‏ لكن على المضطرّ أن يعذر إلى صاحب الطّعام، فيقول له‏:‏ إن لم تعطني قاتلتك عليه، فإن لم يعطه وقتله، فدم صاحب الطّعام هدرٌ في صريح مذاهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ولم يصرّح الحنفيّة بحكم ذلك، ولكن مقتضى قولهم‏:‏ أنّه يباح للمضطرّ قتال صاحب الطّعام أنّه إن قتله فلا شيء عليه‏.‏

من له حقّ الإعذار ‏؟‏ وبم يكون ‏؟‏ وجزاء الممتنع ‏؟‏

26 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الإعذار إلى الخصم هو حقّ القاضي، فلا يملك الخصم إجبار خصمه على حضور مجلس القضاء لسماع الخصومة من غير أمر القاضي‏.‏ لكنّهم قالوا‏:‏ إذا طلب الخصم من القاضي إحضار المدّعى عليه أجابه إلى ذلك في حالاتٍ، وفي كلّ مذهبٍ تفصيلٌ ينظر في مواطنه من كتاب الدّعوى والقضاء‏.‏

27 - ويلحظ أنّ ما ذكره الفقهاء فيمن له حقّ الإعذار، وفي وسيلته، وجزاء الممتنع، القصد منه إعلام المدّعى عليه بما ادّعي به عليه، وقطع عذره لئلاّ يقول بعد الحكم عليه‏:‏ إنّه لم يكن يعلم بأنّ الأمر سيؤدّي إلى ما أدّى إليه من تطليق زوجته، أو إلزامه بما ادّعي عليه من دينٍ أو نحو ذلك‏.‏

أمّا الوسائل الّتي ذكرها الفقهاء للإعذار، وكيفيّة ذلك فإنّها تتّفق وما عهد في أيّامهم من إجراءاتٍ، فليست مبنيّةً على نصوصٍ شرعيّةٍ واجبة الاتّباع، بل هي باجتهادهم‏.‏ وقد استحدثت في هذا العصر وسائل يعمل بها في المحاكم، وهي تتّفق وما قرّره الفقهاء من قصد إعلام المدّعى عليه‏.‏ فتنيط بموظّفين طلب إعلان الخصوم بأوراقٍ رسميّةٍ يوقّع عليها نفس المدّعى عليه، أو من يقيم معه من زوجٍ أو ولدٍ أو خادمٍ، وهناك حالاتٌ يستدعى فيها المدّعى عليه بواسطة الشّرطة إذا امتنع من الحضور، وحالاتٌ يحكم عليه بغرامةٍ ماليّةٍ، والأصل فيها أنّها وسائل مشروعةٌ فلا بأس من العمل بها والسّير عليها‏.‏

أعراب

انظر‏:‏ بدوٌ‏.‏

أعرج

التعريف

1 - الأعرج‏:‏ من كانت به علّةٌ لازمةٌ له في مشيته‏.‏ يقال‏:‏ عرج فهو أعرج‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - اعتبر العلماء العرج عيباً يردّ به العبد في البيع، ويمنع الإجزاء في الأضحيّة إذا كان عرجاً بيّناً‏.‏

كما اعتبروه في الأشخاص من الأعذار الّتي تعفي من الجهاد‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ‏}‏ وتفصيله في‏:‏ ‏(‏الأضحيّة، والبيع، والجهاد‏)‏‏.‏

إعسارٌ

التعريف

1 - الإعسار في اللّغة‏:‏ مصدر أعسر، وهو ضدّ اليسار، والعسر‏:‏ اسم مصدرٍ وهو الضّيق والشّدّة والصّعوبة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسراً‏}‏ وفي التّنزيل‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏ والعسرة‏:‏ قلّة ذات اليد، وكذلك الإعسار‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هو عدم القدرة على النّفقة، أو أداء ما عليه بمالٍ ولا كسب‏.‏ وقيل‏:‏ هو زيادة خرجه عن دخله، وهما تعريفان متقاربان‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإفلاس

2 - الإفلاس معناه في اللّغة‏:‏ الانتقال من حالة اليسر إلى حالة العسر‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ أن يكون الدّين الّذي على الشّخص أكثر من ماله، فالفرق بينه وبين الإعسار أنّ الإفلاس لا ينفكّ عن دينٍ، أمّا الإعسار فقد يكون عن دينٍ أو عن قلّة ذات اليد‏.‏

ب - الفقر

3 - الفقر‏:‏ لغةً الحاجة، وفي الاصطلاح عرّف بعض الفقهاء الفقير‏:‏ بأنّه الّذي لا شيء له، والمسكين‏:‏ الّذي له بعض ما يكفيه، وعرّفهما بعضهم بعكسه‏.‏ هذا إذا اجتمعا، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين‏}‏ أمّا إذا افترقا بأن ذكر أحدهما دون الآخر، فإنّ أحدهما يدلّ على مطلق الحاجة‏.‏

ما يثبت به الإعسار

4 - يثبت الإعسار بأمورٍ منها‏:‏

أ - إقرار المستحقّ ‏(‏صاحب الدّين‏)‏ فإذا أقرّ أنّ مدينه معسرٌ فإنّه يؤخذ بإقراره، ويخلّى سبيل المدين، لأنّه استحقّ الإنظار بالنّصّ‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏‏.‏ وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه ليس له ملازمته خلافاً للحنفيّة حيث قالوا‏:‏ لا يمنع من ملازمته‏.‏

ب - ويثبت الإعسار بأدلّةٍ أخرى كالشّهادة واليمين والقرائن وغير ذلك‏.‏

وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح ‏(‏إثباتٌ‏)‏‏.‏

آثار الإعسار

أوّلاً آثار الإعسار في حقوق اللّه الماليّة

أ - أثر الإعسار في سقوط الزّكاة بعد وجوبها‏:‏

5 - قد يكون سبب الإعسار تلف المال الّذي فيه الزّكاة على وجهٍ يصير به المزكّي معسراً‏.‏ وعلى هذا إذا لم يكن لدى المزكّي غير المال التّالف فهو معسرٌ بحقّ الزّكاة، فيثبت في ذمّته عند الجمهور، خلافاً للحنفيّة‏.‏ وتفصيله في ‏(‏الزّكاة‏)‏‏.‏

ب - أثر الإعسار في منع وجوب الحجّ ابتداءً‏:‏

6 - أجمع المسلمون على أنّ الحجّ لا يجب إلاّ على المستطيع، ومن الاستطاعة القدرة الماليّة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً‏}‏ «وسئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن السّبيل فقال‏:‏ الزّاد والرّاحلة»‏.‏ فمن لم يجد الزّاد والرّاحلة يكون معسراً، فلا يجب عليه الحجّ ابتداءً‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّ المعسر لو تكلّف الحجّ بدون إلحاق ضررٍ بغيره، مثل أن يمشي ويكتسب بصناعته، أو معاونة من ينفق عليه، ولا يسأل النّاس، استحبّ له الحجّ‏.‏ واستدلّوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ‏}‏ فقدّم ذكر الرّجال وهم المشاة‏.‏ أمّا من بلغ واستطاع الحجّ فلم يحجّ ثمّ أعسر، ثبت في ذمّته الحجّ، وعليه أداؤه إذا أيسر، ويأثم إذا مات ولم يؤدّه، فإن أوصى وله تركةٌ وجب الإحجاج عنه قبل تقسيم التّركة‏.‏

ت - أثر الإعسار في سقوط النّذر‏:‏

7 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه إن نذر التّصدّق بشيءٍ، وليس في ملكه إلاّ أقلّ منه، لا يلزمه غيره، لأنّ النّذر بما لا يملك لا يصحّ‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ من نذر ما لا يملك لزمه إن قدر عليه، فإن لم يقدر لزمه بدله أو بدل بدله، فلو نذر بدنةً لزمته، فإن أعسر عنها فبقرةٌ، فإن أعسر عنها فسبع شياهٍ، فلو قدر على ما دون السّبعة من الغنم فإنّه لا يلزمه إخراج شيءٍ من ذلك، وهو ظاهر كلام خليلٍ والموّاق، وفي كلام بعضهم أنّه يلزمه إخراج ما دون السّبعة من الغنم، ثمّ يكمّل ما بقي متى أيسر، لأنّه ليس عليه أن يأتي بها كلّها في وقتٍ واحدٍ‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ من نذر طاعةً لا يطيقها، أو كان قادراً عليها فعجز عنها فعليه كفّارة يمينٍ، لما روى «عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه قال‏:‏ نذرت أختي أن تمشي إلى بيت اللّه حافيةً، فأمرتني أن أستفتي لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال‏:‏ لتمش ولتركب»‏.‏ وعن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا نذر في معصية اللّه، وكفّارته كفّارة يمينٍ»‏.‏ قال‏:‏ «ومن نذر نذراً لا يطيقه فكفّارته كفّارة يمينٍ»

ث - أثر الإعسار في كفّارة اليمين‏:‏

8 - إذا حنث الحالف في الأيمان فعليه الكفّارة، لقوله تعالى ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان‏}‏ إن شاء أعتق رقبةً، وإن شاء أطعم عشرة مساكين أو كساهم، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ متتابعاتٍ، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ‏}‏ على التّخيير بينها ‏{‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ‏}‏ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه ‏(‏ثلاثة أيّامٍ متتابعاتٍ‏)‏ وقراءته مع شذوذها عند القرّاء هي كالخبر المشهور من حيث الرّواية‏.‏

فمقتضى هذا أنّ الإعسار بالعتق أو الإطعام أو الكسوة ينتقل به المعسر إلى الصّيام‏.‏

ج -الإعسار بقيمة الماء للوضوء والغسل‏:‏

9 -ذهب الفقهاء إلى أنّه لو لم يجد الماء مريد الوضوء والغسل إلاّ أن يشتريه بثمن المثل وقدر عليه فإنّ عليه أن يشتريه، ولا يجب عليه أن يشتريه بأكثر، والكثير ما فيه غبنٌ فاحشٌ، وفي مقدار الغبن خلافٌ وتفصيلٌ، وأولى ما قيل فيه‏:‏ إنّه ما لا يدخل تحت تقويم المقوّمين‏.‏

وعلى هذا فإن أعسر بما لزمه شراء الماء به، فإنّه يتيمّم ولو كان الماء موجوداً‏.‏

ح - أثر الإعسار في الفدية‏:‏

10 - ذهب الحنفيّة وبعض الحنابلة إلى أنّه إذا أعسر بالفدية في الصّوم سقطت، ويستغفر اللّه تعالى‏.‏ وذهب الشّافعيّة، وهو الصّحيح من مذهب الحنابلة إلى أنّه إذا عجز عن الفدية تبقى في ذمّته‏.‏ أمّا المالكيّة فالفدية عندهم مندوبةٌ‏.‏

ثانياً آثار الإعسار في حقوق العباد

أ - الإعسار بمئونة تجهيز الميّت وتكفينه‏:‏

11 - إذا مات الإنسان معسراً فكفنه على من وجبت عليه نفقته في حال حياته، وهو قول أبي حنيفة فيما نقل عنه - وهو المفتى به - وإذا لم يكن للميّت من تجب عليه نفقته، أو كان - وهو فقيرٌ - فكفنه على بيت المال، فإن لم يكن بيت المال معموراً أو منتظماً فعلى المسلمين تكفينه‏.‏ وتفصيله في ‏(‏تكفينٌ‏)‏‏.‏

ب - الإعسار بأجرة الأجير وأجرة البيت ونحوه‏:‏

12 - قال الحنفيّة‏:‏ إنّ الإجارة تفسخ بالأعذار، كما لو آجر دكّاناً أو داراً ثمّ أفلس - ولزمته ديونٌ لا يقدر على قضائها إلاّ بثمن ما آجر - فسخ القاضي العقد وباعها في الدّيون، لأنّ في الجري على موجب العقد إلزام ضررٍ زائدٍ لم يستحقّ بالعقد، وهو الحبس، لأنّه قد لا يصدّق على عدم مالٍ آخر‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ أجر الأجير دينٌ، ومتى كان على رجلٍ، وكان مؤجّلاً، لم يجز مطالبته به حتّى يحين أجله، لأنّه لو جاز مطالبته به سقطت فائدة التّأجيل‏.‏ وإن كان حالاًّ، فإن كان معسراً لم يجز مطالبته به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏ ولا يملك ملازمته، لأنّ كلّ دينٍ لا يملك المطالبة به لم يملك الملازمة عليه كالدّين المؤجّل‏.‏ فإن كان يحسن صنعةً فطلب الغريم أن يؤجّر نفسه ليكسب ما يعطيه لم يجبر على ذلك، لأنّه إجبارٌ على التّكسّب، فلم يجز كالإجبار على التّجارة، وإن أكرى أرضاً فأفلس المكتري بالأجرة، فإن كان قبل استيفاء شيءٍ من المنافع فله أن يفسخ، لأنّ المنافع في الإجارة كالأعيان المبيعة في البيع، ثمّ إذا أفلس المشتري والعين باقيةٌ ثبت له الفسخ، فكذلك إذا أفلس المكتري والمنافع باقيةٌ وجب أن يثبت له الفسخ‏.‏

ت - إعسار المحال عليه‏:‏

13 - لا يرجع المدين على المحيل إلاّ أن يموت المحال عليه مفلساً، أو يجحد ولا بيّنة عليه، لأنّه عجز عن الوصول إلى حقّه، والمقصود من الحوالة سلامة حقّه، فكانت مقيّدةً بالسّلامة، فإذا فاتت السّلامة انفسخت كالعيب في المبيع‏.‏ هذا عند أبي حنيفة، وزاد الصّاحبان أنّه يرجع بوجهٍ آخر أيضاً، وهو أن يحكم الحاكم بإفلاسه في حياته، بناءً على أنّ الإفلاس يتحقّق عندهما بقضاء القاضي، وعنده لا‏.‏ وهي كذلك عند الشّافعيّة، فإن أحاله على مليءٍ فأفلس أو جحد الحقّ وحلف عليه لم يرجع إلى المحيل، لأنّه انتقل حقّه إلى مالٍ يملك بيعه فسقط حقّه في الرّجوع، كما لو أخذ بالدّين سلعةً ثمّ تلفت بعد القبض‏.‏

وإن أحاله على رجلٍ بشرط أنّه مليءٌ فبان أنّه معسرٌ، فقد ذكر المزنيّ أنّه لا خيار له، وأنكر أبو العبّاس بن سريجٍ هذا وقال‏:‏ له الخيار، لأنّه غرّه بالشّرط فثبت له الخيار، كما لو باعه بقرةً بشرط أنّها حلوبٌ، ثمّ بان أنّها ليست كذلك‏.‏

وقال عامّة الأصحاب‏:‏ لا خيار له لأنّ الإعسار نقصٌ، فلو ثبت به الخيار لثبت من غير شرطٍ كالعيب في المبيع، ويخالف الصّفة المرغوبة، فإنّ عدمها ليس بنقصٍ وإنّما هو عدم فضيلةٍ، فاختلف الأمر فيه بين أن يشرط وبين ألاّ يشرط‏.‏ والمالكيّة كذلك يرون أنّه إن شرط المحال على المحيل إن أفلس المحال عليه رجع على المحيل فله شرطه‏.‏ ونقله الباجيّ كأنّه المذهب، وقال ابن رشدٍ‏:‏ هذا صحيحٌ لا أعلم فيه خلافاً‏.‏ وأمّا الحنابلة فقد قالوا‏:‏ متى توفّرت الشّروط برئ المحيل من الدّين بمجرّد الحوالة، لأنّه قد تحوّل من ذمّته، فإن أفلس المحال عليه بعد ذلك أو مات أو جحد الدّين فلا يرجع على المحيل، كما لو أبرأه، لأنّ الحوالة بمنزلة الإيفاء‏.‏ ومتى لم تتوفّر الشّروط لم تصحّ الحوالة، وإنّما تكون وكالةً‏.‏ قال الشّمس ابن أبي عمر‏:‏ وإذا لم يرض المحال ثمّ بان المحال عليه مفلّساً أو ميّتاً رجع بغير خلافٍ‏.‏ وإن رضي مع الجهل بحاله رجع، لأنّ الفلس عيبٌ في المحال عليه‏.‏ وإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع‏.‏ لحديث‏:‏ «المؤمنون عند شروطهم»‏.‏

ث - إعسار الزّوج بالمهر المسمّى‏:‏

14 - يفصّل الشّافعيّة في إعسار الزّوج بالمهر بين حالتين‏:‏

أوّلاهما‏:‏ إن كان قبل الدّخول ثبت لها الخيار في فسخ النّكاح، لأنّه يلحقه الفسخ بالإفلاس بالمهر، وهو وجهٌ عند الحنابلة‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ إن كان بعد الدّخول لم يجز الفسخ، لأنّ الزّوج استوفى حقّه فلم يفسخ بالإعسار، وقد وافقهم الحنابلة في وجهٍ لهم على ذلك‏.‏ وهناك وجهٌ آخر عند الحنابلة أنّه لا يثبت لها خيار الفسخ مطلقاً، لا قبل الدّخول ولا بعده، وهو اختيار ابن حامدٍ، لأنّ المهر دينٌ في الذّمّة، فلا يفسخ النّكاح للإعسار به، كالنّفقة الماضية، ولأنّ تأخيره ليس فيه ضررٌ مجحفٌ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن دعت زوجها للدّخول بها، وطلبت حالّ الصّداق فلم يجده، وادّعى العدم ولم تصدّقه، ولم يثبت عدمه ببيّنةٍ، وليس له مالٌ ظاهرٌ، أمهله الحاكم لإثبات عسره ‏(‏فقره‏)‏، ثمّ إذا ثبت عسره، أو صدّقته فيه زيد له في الأجل باجتهاد الحاكم، فإن أتى بشيءٍ وإلاّ عجّزه‏.‏ ووجوب التّلوّم لمن ثبت عسره ولا يرجى يساره - لأنّ الغيب قد يكشف عن العجائب - هو تأويل الأكثر‏.‏ وصحّح - أي صوّبه - المتيطيّ وعياضٌ، وعدم التّلوّم لمن لا يرجى يساره، فيطلق عليه ناجزاً هو تأويلٌ فضل على المدوّنة‏.‏

ثمّ بعد انقضاء الأجل طلّق عليه، بأن يطلّق الحاكم، أو توقعه الزّوجة ثمّ يحكم الحاكم، على القولين في ذلك‏.‏ ووجب على الزّوج المطلّق لعجزه عن المهر نصفه يدفعه إن أيسر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم‏}‏

وأمّا الحنفيّة‏:‏ فلا يجيزون الفسخ بالإعسار بالمهر أو غيره، وللزّوجة قبل الدّخول منع تسليم نفسها للزّوج حتّى تستوفي معجّل صداقها‏.‏

ج -إعسار المدين بما وجب عليه من الدّين‏.‏ وهل يحبس بذلك أم لا ‏؟‏

15 - قال الحنفيّة‏:‏ إذا ثبت الحقّ للمدّعي فطلب من القاضي حبس المدين، أمره القاضي بدفع ما عليه، فإن امتنع حبسه، لأنّه ظهر ظلمه‏.‏ للحديث «ليّ الواجد ظلمٌ يحلّ عرضه وعقوبته»‏.‏ والعقوبة الحبس‏.‏

فإن أقرّ المدّعي أنّ غريمه معسرٌ خلّي سبيله، لأنّه استحقّ الإنظار بالنّصّ، ولا يمنع من الملازمة‏.‏ وإن قال المدّعي‏:‏ هو موسرٌ، وهو يقول‏:‏ أنا معسرٌ، فإن كان القاضي يعرف يساره، أو كان الدّين بدل مالٍ كالثّمن والقرض، أو التزمه كالمهر والكفالة وبدل الخلع ونحوه حبسه، لأنّ الظّاهر بقاء ما حصل في يده، والتزامه يدلّ على القدرة، ولا يحبسه فيما سوى ذلك إذا ادّعى الفقر، لأنّه الأصل، وذلك مثل ضمان المتلفات وأروش الجنايات ونفقة الأقارب والزّوجات، إلاّ أن تقوم البيّنة أنّ له مالاً فيحبسه، لأنّه ظالمٌ‏.‏ فإذا حبسه مدّةً يغلب على ظنّه أنّه لو كان مالٌ له أظهره، وسأل عن حاله فلم يظهر له مالٌ، خلّى سبيله، لأنّ الظّاهر إعساره فيستحقّ الإنظار‏.‏ وكذلك الحكم لو شهد شاهدان بإعساره‏.‏ وتقبل بيّنة الإعسار بعد الحبس بالإجماع وقبله لا‏.‏ والفرق أنّه وجد بعد الحبس قرينةً، وهو تحمّل شدّة الحبس ومضايقه، وذلك دليل إعساره ولم يوجد ذلك قبل الحبس، وقيل تقبل في الحالتين، وإن قامت البيّنة على يساره أبداً حبسه لظلمه حتّى يؤدّي ما عليه‏.‏ واختلفوا في مدّة الحبس، قيل‏:‏ شهران أو ثلاثةٌ، وبعضهم قدّره بشهرٍ، وبعضهم بأربعةٍ، وبعضهم بستّةٍ‏.‏ ولمّا كان النّاس يختلفون في احتمال الحبس، ويتفاوتون تفاوتاً كثيراً فإنّه يفوّض إلى رأي القاضي‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يحبس المدين المجهول إذا ادّعى العدم ليستبين أمره بإثباتٍ، ومحلّ حبسه ما لم يسأل الصّبر والتّأخير إلى إثبات عسره، وإلاّ أخّر مع كفالة كفيلٍ ولو بالنّفس، ويحبس إن جهل حاله إلى أن يثبت عسره، وإن لم يأت به الحميل ‏(‏الكفيل‏)‏ غرم ما عليه إلاّ أن يثبت عسره‏.‏

وثبوت عسره يكون بشهادة عدلين يشهدان أنّهما لا يعرفان له مالاً ظاهراً ولا باطناً، ويحلف على ذلك لكن على البتّ، ويزيد في مينه‏:‏ وإن وجدت المال لأقضينه عاجلاً، وإن كنت مسافراً عجّلت الأوبة ‏(‏الإياب‏)‏‏.‏ وبعد الحلف يجب إطلاقه وإنظاره، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏‏.‏ فإن لم يثبت عسره وطال حبسه فإنّه يطلّق، لكن بعد حلفه أنّه لا مال عنده‏.‏ ولا حبس على معدمٍ ثابت العدم، للآية المذكورة، لأنّ حبسه لا يحصل به فائدةٌ، ويجب على المدين أن يوصي بما عليه من الدّين، فإن مات ولم يوجد له مالٌ وفّي عنه من بيت المال، لقوله عليه السلام «فمن توفّي وعليه دينٌ فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته»‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ إذا ثبت عليه الدّين بيع ما ظهر له ودفع ولم يحبس، وإن لم يظهر حبس وبيع ما قدر عليه من ماله، فإن ذكر عسره قبلت منه البيّنة، لقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏‏.‏ وأحلّفه مع ذلك باللّه وأخلّيه، ومنعت غرماءه من لزومه، حتّى تقوم بيّنةٌ أنّه قد أفاد مالاً، فإن شهدوا أنّهم رأوا في يده مالاً سئل، فإن قال مضاربةٌ قبلت مع يمينه، ولا غاية لحبسه أكثر من الكشف عنه، فمتى استقرّ عند الحاكم ما وصفت لم يكن له حبسه، ولا يغفل المسألة عنه‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ من وجب عليه دينٌ حالٌّ فطولب به ولم يؤدّه، نظر الحاكم، فإن كان في يده مالٌ ظاهرٌ أمره بالقضاء، وإن لم يجد له مالاً ظاهراً فادّعى الإعسار وصدّقه غريمه لم يحبس ووجب إنظاره، ولم تجز ملازمته، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ‏}‏ ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغرماء الّذي كثر دينه‏:‏ «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلاّ ذلك» ولأنّ الحبس إمّا أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه، وعسرته ثابتةٌ، والقضاء متعذّرٌ، فلا فائدة في الحبس‏.‏ وإن كذّبه غريمه فلا يخلو إمّا أن يكون عرف له مالٌ أو لم يعرف، فإن عرف له مالٌ لكون الدّين ثبت عن معاوضةٍ، كالقرض والبيع، أو عرف له أصل مالٍ سوى هذا‏.‏ فالقول قول غريمه مع يمينه، فإذا حلف أنّه ذو مالٍ حبس حتّى تشهد البيّنة بإعساره‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الدّين‏.‏

ح - الإعسار بدفع الجزية ‏(‏الجزية المفروضة، والجزية المصالح عليها‏)‏‏:‏

16 - ذهب الحنفيّة والحنابلة وهو أحد قولي الشّافعيّة إلى أنّه لا جزية على فقيرٍ غير متكسّبٍ لأنّ عمر رضي الله عنه شرط كونه معتملاً ‏(‏أي متكسّباً‏)‏ وهو دليل عدم وجوبها على الفقير غير المعتمل، ولأنّه غير مطيقٍ للأداء حيث لا يقدر على العمل‏.‏

لكن صرّح الحنفيّة بأنّه إذا أيسر الفقير بعد وضع الجزية عنه وجبت عليه، لأنّه أهلٌ للجزية، وإنّما سقطت عنه للعجز وقد زال، ولا يحاسب بما مضى‏.‏

وعند المالكيّة‏:‏ الذّمّيّ الفقير يضرب عليه بوسعه ‏(‏أي بقدر طاقته‏)‏ ولو درهماً إن كان له طاقةٌ، وإلاّ سقطت عنه‏.‏ فإن أيسر بعد لم يحاسب بما مضى لسقوطه عنه‏.‏

وفي قولٍ للشّافعيّة‏:‏ أنّها تجب عليه ولو كان فقيراً، لأنّها تجب على سبيل العوض، فاستوى فيه المعتمل وغير المعتمل، فعلى هذا ينظر إلى الميسرة، فإذا أيسر طولب بجزية ما مضى، وقيل‏:‏ لا ينظر‏.‏

خ - إعسار التّركة عن الوفاء بما وجب فيها من حقوقٍ‏:‏

17 - إذا كانت تركة الميّت لا تفي بما عليه من الدّيون، ففي الأحكام المتعلّقة بذلك خلافٌ وتفصيلٌ يرجع إليه في مصطلحي ‏(‏إرثٌ، وتركةٌ‏)‏‏.‏

د - الإعسار بالنّفقة على النّفس‏:‏

18 - الأصل أنّ نفقة الإنسان الحرّ في ماله صغيراً كان أو كبيراً، إلاّ الزّوجة فإنّ نفقتها على زوجها متى استوفت شروط وجوبها عليه‏.‏ ولا ينتقل حقّه إلى مطالبة الغير بها سواءٌ كان هذا الغير أصلاً أو فرعاً، إلاّ إذا كان معسراً وغير قادرٍ على الكسب أو عاجزاً عنه في بعض الصّور‏.‏

وفي من تجب عليه النّفقة خلافٌ وتفصيلٌ يرجع إليه تحت مصطلح ‏(‏نفقة الأقارب‏)‏‏.‏

ذ - الإعسار بنفقة الزّوجة‏:‏

19 - فيما تقدّر به نفقة الزّوجة ثلاثة اتّجاهاتٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ تقدّر بحال الزّوجين جميعاً، فإن كانا موسرين فلها عليه نفقة الموسرين، وإن كانا معسرين فعليه لها نفقة المعسرين، وإن كانا متوسّطين فعليه نفقة المتوسّطين، وإن كان أحدهما موسراً والآخر معسراً فلها نفقة المتوسّطين، سواءٌ كان هو الموسر أو هي‏.‏ وهذا هو المفتى به عند الحنفيّة والمعتمد عند المالكيّة وهو مذهب الحنابلة جمعاً بين النّصوص المتعارضة ورعايةً لكلا الجانبين‏.‏

الثّاني‏:‏ تقدّر بحال الزّوج وحده‏.‏ ويستدلّ له بقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ ما آتاها سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسراً‏}‏‏.‏ وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة، وصحّحه في البدائع، وهو مذهب الشّافعيّ، وقولٌ عند المالكيّة‏.‏

الثّالث‏:‏ تقدّر بحال الزّوجة‏.‏ أخذاً بدلالة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف‏}‏‏.‏ وبحديث هندٍ إذ قال لها‏:‏ «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»‏.‏ وهو قولٌ عند الحنفيّة‏.‏ وعلى هذا فإذا كان الزّوج معسراً وهي مثله فعليه نفقة المعسرين اتّفاقاً، وإن كانت موسرةً وهو معسرٌ فعلى القول الأوّل عليه نفقة المتوسّطين، وعلى الثّاني عليه نفقة المعسرين، وعلى الثّالث نفقة الموسرين‏.‏ وإذا عجز الزّوج عمّا وجب عليه من النّفقة على التّفصيل السّابق، وطلبت الزّوجة التّفريق بينها وبين زوجها بسبب ذلك، فعند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة يفرّق بينهما‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يفرّق بينهما بذلك، بل تستدين عليه، ويؤمر بالأداء من تجب عليه نفقتها لولا الزّوج‏.‏ وفي المسألة تفصيلاتٌ أوفى من هذا يرجع إليها في أبواب النّفقات من كتب الفقه ‏(‏ر‏:‏ نفقةٌ‏)‏‏.‏

ر - الإعسار في النّفقة على الأقارب‏:‏

20 - يجب على الغنيّ أن ينفق على والديه وأولاده المعسرين بالإجماع، ولا تجب عند المالكيّة النّفقة على غير الوالدين والأولاد المباشرين، وكذلك تجب نفقة سائر الأصول والفروع مهما علوا أو نزلوا عند الجمهور، وأمّا الحواشي كالأخ والعمّ وأولادهما فإنّ الحنفيّة يشترطون لوجوب النّفقة عليهم المحرميّة، ويشترط الحنابلة التّوارث، ويكتفي الشّافعيّة بالقرابة‏.‏ ويتحقّق الإعسار بالنّسبة للمنفق عليه لعدم وجود الكفاية كلاًّ أو جزءاً مع العجز عن الكسب‏.‏ فمن كان يجد كفايته أو كان قادراً على الكسب فنفقته على نفسه ولا تجب نفقته على أحدٍ‏.‏ إلاّ أنّ الحنفيّة والحنابلة أوجبوا نفقة الأصول ولو كانوا قادرين على الكسب‏.‏ أمّا في النّفقة على غيرهم فعند الحنابلة في اشتراط عدم القدرة على الكسب روايتان، ولا يشترط ذلك عند الشّافعيّة‏.‏

ز - أجرة الحضانة والإرضاع‏:‏

21 - الحكم فيهما على ما سبق في النّفقة، على أنّه إن كان للصّغير مالٌ فذلك في ماله‏.‏

س - النّفقة على الحيوان المحتبس‏:‏

22 - اتّفق الفقهاء على أنّ النّفقة على الحيوان المحتبس واجبةٌ ديانةً، وبأنّه يأثم بحبسه عن البيع، مع عدم الإنفاق عليه، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان‏.‏ وفي الحديث «دخلت امرأةٌ النّار في هرّةٍ حبستها حتّى ماتت جوعاً فلا هي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض، ولا هي أطعمتها وسقتها لتعيش»‏.‏«ونهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال»‏.‏

ثمّ ذهب الجمهور وأبو يوسف إلى أنّه يجبر على الإنفاق عليه، إذ في عدم الإنفاق إضاعةٌ للمال وتعذيبٌ للحيوان، وقد ورد النّهي عنهما، وليس هذا الحيوان من أهل الاستحقاق ليقضى له بإجبار المالك على نفقته أو بيعه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجبر مالكه على الإنفاق‏.‏ فإن عجز محتبس الحيوان عن الإنفاق، فقد ذهب الجمهور في الجملة إلى إجباره على البيع أو التّذكية إن كان ممّا يذكّى، وزاد الشّافعيّة أنّه يمكن إجباره على التّخلية للرّعي وورود الماء إن ألف ذلك‏.‏

ش - الإعسار بفكاك الأسير‏:‏

23 - يجب فكاك الأسير المسلم من أيدي الكفّار، ويجب ذلك عند الجمهور بأيّ وسيلةٍ مشروعةٍ، كالقتال والتّفاوض والمفاداة بأسراهم أو بالمال‏.‏ فإذا وقع الفداء على المال فإنّ فداءه يكون من بيت مال المسلمين عند الجمهور ولو كان للأسير مالٌ‏.‏ فإن قصّر بيت المال في ذلك فعلى جماعة المسلمين، وذهب الشّافعيّة وهو قولٌ عند المالكيّة إلى أنّه إذا كان له مالٌ ففداؤه من ماله، فإن كان معسراً ففكاكه من بيت مال المسلمين‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ أسرى‏)‏‏.‏

ص - إعسار الضّامن‏:‏

24 - إعسار الكفيل حكمه كحكم إعسار الأصيل في وجوب الإنظار إلى ميسرةٍ، ولا يسقط به حقّ المطالبة‏.‏

ض - إعسار الدّولة بالتّكاليف الواجبة‏:‏

25 - إن لم يكن في بيت المال مالٌ يكفي للجهاد وما في معناه فلا بأس أن يفرض الإمام على أرباب الأموال ما يسدّ الحاجة، وتفصيله في ‏(‏بيت المال‏)‏‏.‏

أعضاءٌ

التعريف

1 - العضو في اللّغة‏:‏ هو كلّ عظمٍ وافرٍ بلحمةٍ سواءٌ أكان من إنسانٍ أم حيوانٍ‏.‏ يقال‏:‏ عضّى الذّبيحة إذا قطعها أعضاءً‏.‏ والفقهاء يطلقون العضو على الجزء المتميّز عن غيره من بدن إنسانٍ أو حيوانٍ، كاللّسان والأنف والأصبع‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الأطراف

2 - الأطراف‏:‏ هي النّهايات في البدن كاليدين والرّجلين، وعلى هذا فكلّ طرفٍ عضوٌ، وليس كلّ عضوٍ طرفاً‏.‏

الحكم الإجماليّ

3 - هناك أفعالٌ لا يطلق عليها الاسم الشّرعيّ بمفهومه الشّرعيّ إلاّ إذا وقعت على أعضاءٍ مخصوصةٍ، فالوضوء لا يسمّى وضوءاً إلاّ إذا وقع الغسل والمسح فيه على أعضاءٍ مخصوصةٍ سمّاها الشّارع، والتّيمّم لا يكون تيمّماً إلاّ إذا وقع على أعضاءٍ مخصوصةٍ سمّاها الشّارع أيضاً، وهكذا كما هو مبيّنٌ في أبوابه من كتب الفقه‏.‏

وهناك أعضاءٌ يعبّر بها عن الكلّ، كالرّأس، والظّهر، والوجه، والرّقبة، وهذه الأعضاء لو أطلق الطّلاق أو الظّهار أو العتق عليها، كان إطلاقاً على الكلّ، فلو قال‏:‏ وجهك عليّ كظهر أمّي، كان كقوله‏:‏ أنت عليّ كأمّي، كما هو مبيّنٌ في أبواب الطّلاق والظّهار والعتق من كتب الفقه‏.‏ وتوجد عاهاتٌ تصيب بعض الأعضاء كالعمى والعرج والعنّة ونحو ذلك، فيترتّب عليها أحكامٌ خاصّةٌ، كعدم قبول شهادة الأعمى فيما يحتاج إلى النّظر، وسقوط وجوب الجمعة عليه عند البعض، وسقوط الجهاد عنه، وعدم إجزاء الأضحيّة العمياء ونحو ذلك، وسيأتي كلّ ذلك مفصّلاً تحت تلك العاهات في مصطلحاتها‏.‏

إتلاف الأعضاء

4 - الإتلاف قد يكون ببتر العضو، أو بإذهاب منافعه المقصودة منه شرعاً، كلّها أو بعضها، ويطلق الفقهاء على ذلك‏:‏ الجناية على ما دون النّفس‏.‏ وتفصيل أحكام هذا الإتلاف في مصطلح ‏(‏قصاصٌ‏)‏ ‏(‏ودياتٌ‏)‏ ‏(‏وتعزيرٌ‏)‏‏.‏

هذا، وإنّ خوف الفقد لعضوٍ من أعضاء البدن أو تعطّله يعتبر عذراً يباح به بعض المحظورات، فيباح التّيمّم للبرد الشّديد الّذي يخشى منه ذهاب بعض أعضائه، والتّهديد ببتر عضوٍ من أعضاء البدن - ممّن يعتقد أنّه يفعل ذلك - يعتبر إكراهاً ملجئاً كما فصّل ذلك الفقهاء في ‏(‏الإكراه‏)‏‏.‏

ما أبين من أعضاء الحيّ

5 - أ - ما أبين من أعضاء الحيوان الحيّ المأكول اللّحم، حكمه حكم الميتة، نجسٌ لا يجوز أكله ما لم تعتبر إبانة العضو تذكيةً على خلافٍ وتفصيلٍ للفقهاء في ‏(‏صيدٌ‏)‏ ‏(‏وذبائح‏)‏ ‏(‏وأطعمةٌ‏)‏‏.‏

ب - وما أبين من أعضاء الإنسان حكمه حكم الإنسان الميّت في الجملة في النّظر إليه، ووجوب تغسيله وتكفينه ودفنه، على تفصيلٍ في ذلك مكانه‏:‏ كتاب الجنائز من كتب الفقه‏.‏

أعطياتٌ

انظر‏:‏ إعطاءٌ‏.‏

إعفافٌ

التعريف

1 - الإعفاف‏:‏ فعل ما يحقّق العفاف للنّفس أو للغير، والعفّة والعفاف‏:‏ الكفّ عن الحرام، وعمّا يستهجن كسؤال النّاس، وقيل‏:‏ هو الصّبر والنّزاهة عن الشّيء‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ يطلق العفاف في العرف العامّ على شرف النّفس، فالعفيف - كما في تعريف الجرجانيّ - من يباشر الأمور على وفق الشّرع والمروءة‏.‏ ويطلق في الاصطلاح غالباً على ترك الزّنى، باستعفاف المسلم أو المسلمة عن الوطء الحرام، فلا ينافي العفّة - بالمعنى الاصطلاحيّ - الوطء المحرّم لعارض الحيض أو الصّوم أو الإحرام مثلاً‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - إعفاف المرء نفسه، أو من تلزمه نفقته، أو من هو تحت ولايته، مطلوبٌ شرعاً على سبيل الوجوب أو النّدب، ويرجع في تفصيل ذلك إلى ‏(‏النّكاح‏)‏، ‏(‏والنّفقات‏)‏‏.‏

عفاف الإنسان أصوله

3 - ذهب الجمهور - وهو رأيٌ مرجوحٌ للحنفيّة - إلى وجوب إعفاف الفرع أباه بتزويجه أو إعطائه ما يتزوّج به، وذلك إذا وجبت عليه نفقته‏.‏

والرّاجح عند الحنفيّة - وهو قولٌ مرجوحٌ للشّافعيّة - أنّه لا يلزمه سواءٌ وجبت نفقته أو لم تجب‏.‏ أمّا غير الأب كالجدّ ففيه خلافٌ، يفصّله الفقهاء في ‏(‏النّكاح، والنّفقات‏)‏‏.‏

إعلامٌ

انظر‏:‏ إشهارٌ

أعلام الحرم

التعريف

1 - الأعلام‏:‏ في اللّغة جمع علمٍ، والعلم والعلامة شيءٌ ينصب في الأماكن الّتي تحتاج لعلامةٍ يهتدي به الضّالّ، ويقال‏:‏ أعلمت على كذا، جعلت عليه علامةً، ويطلق العلم ويراد به، الجبل والرّاية الّتي يجتمع إليها الجند‏.‏

2 - وأعلام الحرم - وتسمّى أيضاً أنصاب الحرم - هي الأشياء الّتي نصبت في أماكن محدّدةٍ‏.‏ شرعاً لبيان حدود الحرم المكّيّ‏.‏ فللحرم المكّيّ أعلامٌ بيّنةٌ، وهي حاليّاً أنصابٌ مبنيّةٌ مكتوبٌ عليها اسم العلم باللّغات العربيّة والأعجميّة‏.‏

3 - والأنصاب من الحرم على أطرافه مثل المنار، وهي ممّا يلي طريق بستان بني عامرٍ، في طرف بركة زبيدة، عند عينها، عن طرق العراق ثمانية أميالٍ‏.‏

وممّا يلي عرفاتٍ يرى الواقف بعرفة الأنصاب على اثني عشر ميلاً أو نحوها، وممّا يلي طريق المدينة فمن التّنعيم‏.‏ روي عن محمّدٍ الأسود «أنّ أوّل من نصب الأنصاب إبراهيم، أراه جبريل، صلّى اللّه عليهما»‏.‏

وقال ابن بكّارٍ‏:‏ أوّل من سمّى أنصاب الحرم وبناها وعمّرها قصيّ بن كلابٍ، لما روي عن ابن العبّاس أنّ جبريل عليه السلام أرى إبراهيم موضع أنصاب الحرم، فنصبها ثمّ جدّدها إسماعيل، ثمّ جدّدها قصيّ بن كلابٍ، ثمّ جدّدها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الزّهريّ‏:‏ قال عبد اللّه‏:‏ فلمّا ولي عمر بن الخطّاب بعث بأربعةٍ من قريشٍ فنصبوا أنصاب الحرم‏:‏ مخرمة بن نوفل بن عبد مناف بن زهرة، وأزهر بن عبد عوفٍ، وسعيد بن يربوع، وحويطب بن عبد العزّى‏.‏

تجديد أعلام الحرم

4 - روى البزّار في مسنده عن محمّد بن الأسود بن خلفٍ عن أبيه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يجدّد أعلام الحرم عام الفتح»‏.‏ ثمّ جدّدها عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، ثمّ عثمان بن عفّان رضي الله عنه، ثمّ معاوية رضي الله عنه، وهكذا إلى وقتنا الحاضر‏.‏

5 - والحكمة من تنصيب أعلام الحرم أنّ اللّه عزّ وجلّ جعل لمكّة حرماً، وحدّه بحدودٍ أرادها اللّه تعالى، والحكمة في ذلك تبيين المكان الّذي ثبتت له أحكامٌ خاصّةٌ ليمكن مراعاتها، وللتّفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏حرمٌ‏)‏‏.‏

إعلانٌ

التعريف

1 - الإعلان‏:‏ المجاهرة، ويلاحظ فيه قصد الشّيوع والانتشار، والفقهاء يستعملون كلمة «إعلانٍ ‏"‏ فيما استعملها فيه أهل اللّغة بمعنى المبالغة في الإظهار‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإظهار

2 - هو مجرّد الإبراز بعد الخفاء، وعلى هذا فإنّ الفرق بين الإظهار والإعلان‏:‏ أنّ الإعلان هو المبالغة في الإظهار‏.‏ ومن هنا قالوا‏:‏ يستحبّ إعلان النّكاح، ولم يقولوا‏:‏ إظهاره، لأنّ إظهاره يكون بالإشهاد عليه فحسب‏.‏

ب - الإفشاء

3 - يكون الإفشاء بنشر الخبر من غير مجاهرةٍ ولا إعلانٍ، وذلك ببثّه بين النّاس‏.‏

ج - الإعلام

4 - الإعلام‏:‏ إيصال الخبر مثلاً إلى شخصٍ أو طائفةٍ من النّاس، سواءٌ أكان ذلك بالإعلان، أم بالتّحديث من غير إعلانٍ، وعلى هذا فهو يخالف الإعلان من هذه النّاحية، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّه لا يلزم من الإعلان الإعلام، فقد يتمّ الإعلان ولا يتمّ الإعلام لسفرٍ أو حبسٍ أو نحو ذلك‏.‏

د - الإشهاد

5 - هو إظهار المشهود عليه للشّاهدين مع طلب الشّهادة، وقد لا يظهر لغيرهما، ولذلك لم يكن الإشهاد إعلاناً، لأنّ الإعلان إظهارٌ للملأ‏.‏

حكم الإجماليّ

يختلف الإعلان بحسب الأمر والشّخص، فممّا يطلب فيه الإعلان‏:‏

أ - إعلان الإسلام ومبادئه

6 - إذا دخل الإيمان قلب إنسانٍ فعليه أن يعلن إيمانه بالنّطق بالشّهادتين، وعلى المسلمين عامّةً، والعلماء منهم خاصّةً، أن يعلنوا مبادئ الإسلام وأهدافه وأحكامه، ويدعوا النّاس للإيمان بها عملاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ وكما فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عندما أعلن رسالته للنّاس جميعاً‏:‏ ‏{‏يا أيّها النّاس إنّي رسول اللّه إليكم جميعاً‏}‏‏.‏

وعلى المسلمين أن يعلنوا شعائر الإسلام كالأذان، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، والحجّ، والعمرة، ونحو ذلك كما هو مفصّلٌ في أبوابه من كتب الفقه‏.‏

ب - إعلان النّكاح

7 - جمهور الفقهاء على أنّ إعلان النّكاح مستحبٌّ‏.‏ وذهب الزّهريّ إلى أنّه فرضٌ، حتّى أنّه إذا نكح نكاح سرٍّ، وأشهد رجلين، وأمرهما بالكتمان وجب التّفريق بين الزّوجين، وتعتدّ الزّوجة، ويكون لها المهر حتّى إذا ما انقضت عدّتها وبدا له أن يتزوّجها تزوّجها وأعلن النّكاح‏.‏ كما هو مفصّلٌ في كتاب النّكاح من كتب الفقه‏.‏

ج - إعلان إقامة الحدود

8 - إعلان إقامة الحدود واجبٌ، لأنّها شرعت رادعةً مانعةً، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بإعلانها، وعملاً بقوله تعالى في حدّ الزّنى ‏{‏وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين‏}‏‏.‏ وباقي الحدود مثله كما هو مفصّلٌ في كتاب الحدود‏.‏

د - الإعلان عن المصالح العامّة

9 - كلّ عملٍ يمكن أن ينال المسلمين منه خيرٌ ويتزاحموا في طلبه، يجب على وليّ الأمر الإعلان عنه لتتاح الفرصة للجميع على قدرٍ متساوٍ، كالإعلان عن الوظائف، والإعلان عن الأعمال الّتي يفرض وليّ الأمر الجوائز لمن يقوم بها، كقول الإمام‏:‏ ‏{‏من قتل قتيلاً فله سلبه‏}‏، كما هو مذكورٌ في كتاب الجهاد من كتب الفقه‏.‏

هـ - الإعلان عن موت فلانٍ

10 - يسمّى الإعلان عن الموت نعياً، وهو إذا كان لمجرّد الإخبار جائزٌ، أمّا إن كان كفعل الجاهليّة بالطّواف في المجالس قائلاً‏:‏ أنعي فلاناً ويعدّد مفاخره، فإنّه مكروهٌ بالاتّفاق، لأنّه من نعي الجاهليّة، وتفصيل ذلك في الجنائز‏.‏

و - الإعلان للتّحذير

11 - كلّ أمرٍ جديدٍ يمكن أن ينال المسلمين منه ضررٌ لجهلهم بحاله، وجب على وليّ الأمر إعلانه، كإعلان الحجر على السّفيه والمفلس، ليحذر المسلمون التّعامل معهما‏.‏ كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الحجر، وفي باب التّفليس‏.‏

12 - وكلّ ما لا يصحّ إظهاره لا يصحّ إعلانه، لأنّ الإعلان أشهر من الإظهار ‏(‏ر‏:‏ إظهارٌ‏)‏‏.‏

ما يصحّ إظهاره ولا يصحّ إعلانه

13 - هناك أمورٌ يجوز إظهارها، ولكن لا يجوز إعلانها‏.‏ منها‏:‏ إظهار سبب الجرح للشّاهد - لأنّ الجرح لا يقبل إلاّ مفسّراً - فإنّه لا يجوز إعلانه لما فيه من التّشهير‏.‏

وإظهار الحزن على الميّت، لأنّه لا يملك إخفاءه، ولكنّه لا يجوز له المبالغة في إظهار هذا الحزن، أي لا يجوز له إعلانه‏.‏

إعمارٌ

التعريف

1 - يأتي الإعمار بمعنيين‏:‏

الأوّل‏:‏ مصدر أعمر فلانٌ فلاناً‏:‏ إذا جعله يعتمر، وفي الحديث ‏{‏أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ أن يعمر عائشة رضي الله عنها من التّنعيم‏}‏‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّه نوعٌ من الهبة، فيقولون‏:‏ أعمر فلانٌ فلاناً داره، أي جعلها له عمره، وقد ورد في السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لا عمرى ولا رقبى، فمن أعمر شيئاً أو أرقبه فهو له حياته ومماته‏}‏‏.‏

2 - وقد فصّل الفقهاء أحكام العمرى والرّقبى على خلافٍ بينهم في الأخذ بظاهر الحديث بجعلها تمليكاً، أو تأويله على تفصيلٍ ينظر في‏:‏ ‏(‏الهبة، والعاريّة‏)‏‏.‏

أعمى

انظر‏:‏ عمًى‏.‏

أعوان

انظر‏:‏ إعانةٌ‏.‏

أعور

انظر‏:‏ عورٌ‏.‏

أعيانٌ

التعريف

1 - الأعيان في اللّغة‏:‏ جمع عينٍ، والعين لها إطلاقاتٌ عديدةٌ منها‏:‏

العين بمعنى المال الحاضر النّاضّ‏.‏ يقال‏:‏ اشتريت بالدّين ‏(‏أي في الذّمّة‏)‏ أو بالعين أي المنقود الحاضر‏.‏ وعين الشّيء نفسه، يقال أخذت مالي بعينه، أي نفس مالي‏.‏

والعين ما ضرب من الدّنانير والدّراهم ومنها العين الباصرة، والعين بمعنى الجاسوس‏.‏

والإخوة الأعيان هم الإخوة الأشقّاء‏.‏

ولا يخرج الاستعمال الفقهيّ عن هذه المعاني اللّغويّة المذكورة، إلاّ أنّ أكثر استعمال الفقهاء للأعيان فيما يقابل الدّيون، وهي الأموال الحاضرة نقداً كانت أو غيره، يقال‏:‏ اشتريت عيناً بعينٍ أي حاضراً بحاضرٍ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الدّين‏:‏

2 - هو مالٌ حكميٌّ، يثبت في الذّمّة ببيعٍ أو استهلاكٍ أو غيرهما، كمقدارٍ من المال في ذمّة آخر، في حين أنّ العين هي مالٌ منقودٌ حاضرٌ مشخّصٌ عند التّعامل‏.‏

ب - ‏(‏العرض‏)‏‏:‏ العرض ‏(‏بسكون الرّاء‏)‏ من صنوف الأموال‏:‏ ما كان من غير الذّهب والفضّة اللّذين هما ثمن كلّ عرضٍ، ويقال‏:‏ اشتريت من فلانٍ قلماً بعشرةٍ، وعرضت له من حقّه ثوباً أي أعطيته إيّاه بدل ثمن القلم، فالعرض يقابل العين‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالأعيان

3 - الأعيان بمعنى الذّهب والفضّة لها أحكامٌ خاصّةٌ يرجع إليها تحت‏:‏ ‏(‏ذهبٌ، وفضّةٌ، وصرفٌ‏)‏ والأعيان بمعنى الذّوات تختلف أحكامها باختلاف هذه الذّوات وهي موزّعةٌ تحت عناوين متعدّدةٍ في أبوابٍ مختلفةٍ كما في ‏(‏الزّكاة، والبيع، والإجارة، والرّهن، والإتلاف، والضّمان‏)‏ وغيرها‏.‏ والإخوة الأعيان ينظر حكمهم تحت عنوان ‏(‏أخٌ‏)‏‏.‏

إغاثةٌ

انظر‏:‏ استغاثةٌ‏.‏